كتب : عدنان جمّن
ولد الفنان شكيب جمن في ١٩٤٩ بمنطقة العيدروس بمدينة كريتر، وهو الأخ الأكبر لتسعة أخوة، منذ نعومة أظافره كان مهتماً بالموسيقى والرسم، ولفت اهتمام مدرسيه بقدرته على الرسم ، وكان ذلك سبباً ليلتحق بالثانوية الفنية، ولكن كراسات المدرسة أمتلأت بأشجار النخيل ، وصور المراكب الشراعية التي سلبت مخ شكيب الصغير، مما أدى إلى استدعاء الوالدة رحمة الله عليها إلى إدارة المدرسة غير ذات مرة. برغم إخفاقه في إنهاء دراسته في الثانوية الفنية إلا أنه لفت نظر فنانين كبار مثل أحمد قاسم رحمة الله عليه، حيث بدأ شكيب الصبي ذو البنية المكتنزة يقف خلف هذا العملاق في حفلاته وهو يتوشح آلة الأكورديون على صدره التي لم تكن إلا تحدٍ بسيط لاكتشاف كيفية العزف على بقية الآلات الموسيقية، فسرعان ماتعلم العزف على آلة الكمان والعود وبقية الآلات الموسيقية وكان يبدي براعة غير عادية في كل آلة يعزفها، والشيء اللافت إنه لم يستغرق الكثير من الوقت في تعلمها.
فيما بعد أصبح هذا الفتى البدين من أشهر عازفي آلة الكمان في عدن. هذه الآلة التي أخذت كل حبه ، لما لها من قدرة ساحرة على التعبير، الشيء الطريف أن معظم تسجيلات التلفزيون والإذاعة حملت بصمات شكيب
بشكل واضح فقل ما ترى فناناً لا يعزف له شكيب.
في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي قام شكيب بتكوين فرقة موسيقية من أمهر العازفين أسماها فرقة ( الأنامل الذهبية ) وقد أقتطع قيمة شراء هذه الآلات من لحمه وصحته، حيث بدأت أعراض مرض السكري تداهمه قبل بلوغه الثلاثين من العمر ، وربما بسبب بدانته الزائدة حينها، هذه الفرقة كانت تقدم خدماتها في الحفلات الخاصة التي كانت تقام في مجتمع عدن آنذاك، مثل حفلات الزواج وأعياد الميلاد وماشابه، كانت الفرقة تمارس تدريباتها في شقتنا في شارع الملكة أروى التي انتقلنا للعيش فيها أواخر الستينيات، ولم تكن أمنا تتذمر من ذلك، فبعد رحيل الوالد في بداية الستينات أصبح شكيب هو ولي أمرنا وكانت هذه الفرقة مصدر دخل إضافي لعائلتنا الكبيرة، حيث أن شكيب التحق بالفرقة الوترية التابعة للجيش في أوائل حياته العملية ثم تحول للعمل في التلفزيون بعد عدة سنوات ، وهذا كان حلم حياته.
شكيب اكتشف موهبة أخي الأصغر عارف، الذي أسعده الحظ بأنه عاش طفولته بين الآلات التي أستطاع شكيب جمعها ، ونحن كنا بعد نخطو أولى خطواتنا في الدنيا، عارف كان نسخة أخرى من شكيب، ولكن مع فارق أن عارف كان نجمه سريع السطوع، فقد ولد عبقرياً منذ طفولته وذات نباهة فنية عالية شّدت انتباه شكيب الذي سرعان ما أستغل موهبة عارف الفذة في فرقته الموسيقية، وأصبح منظر عارف الطفل الصغير عازف الكمنجة الموهوب جالساً خلف أخيه الأكبر منظراً شبه مألوف لكل أبناء عدن في كل المناسبات المسجلة وغير المسجلة.
بدأت فرقة الأنامل الذهبية تتفكك بتفكك أعضائها، منهم من سافر للدراسة، ومنهم تكبر على شكيب وهجره. مما دفع بشكيب للتركيز على برامج الأطفال والاحتكاك بهم أكثر من ذي قبل، وظل حتى سنينه الأخيرة يجد فيهم الوفاء والعرفان أكثر من الكبار.
خلّف شكيب إرثاً فنياً ضخماً رغم عمره القصير، فقد لحّن العديد من الأغاني للأطفال، وساهم في تصميم العديد من ديكورات التلفزيون وأعد الكثير من البرامج، وكان موهوباً بالكهربائيات والأدوات الموسيقية الألكترونيّة ومن أوائل من أدخل آلة الأورج الكهربائي لعدن ، وكان يمتلك آلة كمان من أندر الآلات التي صنعها أحد العباقرة الإيطاليين بالإضافة لآلات هندية غريبة أقتناها خلال رحلاته الفنية لدول العالم.
تحصّل شكيب على دورة فنية قصيرة في القاهرة ، وكان من أوائل من أدخل النوتة الموسيقية إلى فرق عدن الفنية.
لشكيب ولد واحد اسمه أحمد وهو يسير على خطى والده ولكنه برع في عزف الأورج أكثر وهو يعمل في نفس الاستوديو الذي يحمل اسم المرحوم شكيب جمن.
تعلمت من أخي شكيب الصبر وحسن السلوك حتى مع ألذ أعدائه، فلم أره يوماً ما يفقد ابتسامته ودماثة خلقه، وكان رجلاً محباً لعمل الخير وإنساناً خفيف الظل وجميل الروح إلى أبعد الحدود. وبسبب أخي شكيب صرت الآن ما أنا عليه، فهو الذي شجعني منذ نعومة أظافري على التفوق في الرسم ، ولم يبخل علي بأي شي فقد وفر لي كل المواد الفنية التي حلمت بامتلاكها، ولم يبخل علي كذلك بالنصح والتوجيه اللذين أفاداني جداً في حياتي بعد ذلك.
في الأيام الأخيرة من حياته أشتدت عليه مضاعفات مرض السكر الذي تطور للغرغرينا مما أدى إلى بتر أطراف أصابع قدميه. وتوفي شكيب أحمد عبده جمن في ١٦ أغسطس ١٩٩١.